تعتبر السعرة الحرارية مقياساً ضرورياً في عملية الرقابة – الذاتية التي نفرضها على أجسادنا. وكما أظهرت وثيقة قامت الحكومة الإسرائيلية بإصدارها مؤخراً، فالسعرة تشكّل أيضاً أداة حكم. وكانت مؤسسة حقوق الإنسان الإسرائيلية "جيشا"، قد تمكّنت بعد معركة قانونية استمرت لمدة سنتين، من الحصول على هذه الوثيقة التي تحمل عنوان "إستهلاك الطعام في قطاع غزة – خطوط حمراء".
الهوس بالقياس
بعد اعتلاء حماس سدّة الحكم في غزة في أيلول عام 2007، فرضت الحكومة الإسرائيلية قيوداً على مرور البضائع والوقود والناس من وإلى القطاع. ووثيقة "الخطوط الحمراء" التي تم إعدادها في كانون الثاني عام 2008، توصي "بالحد الأدنى الإنساني" المطلوب في تطبيق هذه السياسة. وضمن سياسية تطبيق الحصار على غزة، ارتأى المسؤولون الإسرائيليون السماح" بسد الرمق دون تطور ذلك الى وضع سوء تغذية". وتذكّرنا وثيقة "خطوط حمراء" بشكل مؤلم بكيفية عمل ذلك المقياس، أي السعرة كأداة للاقصاء والإحتواء السياسي.
في العام 1896، وفي قبو جامعة ويزليان في الولايات المتحدة، اخترع ويبور أتواتير جهاز قياس السعرات الحرارية، مزوداً بذلك حقل علم التغذية الناشئ آنذاك، بتقنية ذات تأثير واسع من شأنها تحويل الغذاء إلى “مادة تقرأ سياسياً”. وشهدت بداية القرن العشرين تصاعد الهوس في جعل الاقتصاد مرئياً وقابلاً للقياس. وشكّلت السعرة الحرارية، أسّوةً بمؤشرات أخرى مثل تكلفة المعيشة وإجمالي المنتوج القومي، تقنية هامة في الجهد المبذول لحساب الإنتاج والاستهلاك والمقدرة الإنتاجية.
لقد مكّنت السعرة من حساب الحد الأدنى من الاحتياجات المطلوبة لإنتاجية قصوى. وصور العلماء وأخصاء الاقتصاد، السعرة كمعيار عالمي موضوعي من شأنه في النهاية تسهيل التنمية والربح العام. إلا أن الأصول التاريخية للسعرة وكذلك دورها المتواصل كأداة حكم، تكشف كيف يعمل الـ"كوني" على إقصاء وتصنيف الناس. فعندما أقّرت اللجنة التقنية التابعة لعصّبة الأمم "المعيار الأمثل" للتغذية في العام 1938، قامت آنذاك بملائمة درجات البروتينات والدهون والكربوهيدرات لتكون أقل من المعايير الغربية العالية وذلك بسبب "عادات الحمية" لدى الناس في الشرق الأوسط والأدنى، والذين أُعتبروا على أنهم "أقل نشاطاً".
كما ويكشف تاريخ السعرة أمراً ملحّاً آخر يتعلق بالمقياس وإن كان أقل وضوحاً، ذلك هو الإحتواء السياسي. فقد صاغ علماء الاقتصاد والتغذية في الولايات المتحدة الأمريكية، لائحة "تكلفة المعيشة" للمرة الأولى في أواخر القرن التاسع عشر، عندما كانت قضية تنظيم العمال في أوّجها. ولم يكن الدافع وراء هذه الجهود وعداً بتحسين الاقتصاد. إنما كان ذلك التصميم على أن البقاء الأساسي كان ضرورياً لإنهاء الاضطراب العماليّ وإبقاء الهرمية الاجتماعية.
حرب اقتصادية
من الممكن تفسير السياسة الإسرائيلية المتجسدة في مستند "الخطوط الحمراء" عبر هذا الخليط من الرقابة الجسدية والاحتواء السياسي. فعن طريق حساب السعرات إلى جانب وزن الغذاء وإدخال إختلافات العمر والجنس في المعادلة؛ قام جهاز الأمن الإسرائيلي ووزارة الصحة سوية بترجمة "الحصة الإنسانية اليومية" لأهل غزة إلى عدد معيّن من الشاحنات التي تقوم بنقل الغذاء إلى القطاع. بذلك وضع المسؤولون الإسرائيليون حجر الأساس لحرب إقتصادية تسعى لإحتواء الغزيين وتحريضهم ضد حماس.
هذا وادّعى "منسق فعاليات الحكومة في المناطق [المحتلة]" والذي رصد وأقرّ كل نوع من أنواع الأغذية التي كانت تدخل إلى غزة، بأن "الخطوط الحمراء" لم تكن سوى مسوّدة ولم تشكل أبداً أي أساس أو مرجع لأي سياسة. إلا أنه يصعب هضم مثل هذا الإدعاء، عندما نرى أن حصة البضائع الداخلة إلى غزة طابقت حسابات الوثيقة.
في الواقع، لقد كانت الكميات التي سُمح بإدخالها أخيراً إلى غزة أقل من "الحصة الإنسانية اليومية" وفقاً لـ"الخطوط الحمراء". أما الهدف من وراء ذلك - بتعبير مسؤول من قبل "منسق فعاليات الحكومة في المناطق [المحتلة]"- فكان: "لا ازدهار، لا تطور، ولا أزمة إنسانية". عانى الغزيون نتيجة للحصار من نقص في المنتوجات الأساسية مثل الطحين والسكر، وقد تزامن ذلك مع ارتفاع ينذّر بالخطر في معدل البطالة من 26.4 بالمئة في العام 2007 إلى 45.4 بالمئة في العام 2008، وارتفاع في نسبة الإعتماد على الدعم [الخارجي] من 63 بالمئة في العام 2006 إلى 80 بالمئة في العام 2007.
إن دراسة بسيطة للسجّل التاريخي، وخاصة في العراق ومؤخراً في إيران، تعلمنا أن العقوبات الاقتصادية تعمل بشكل متواصل لتجويع وقتل المدنيين، وتحديداً أولئك الذين لا أواصر تربطهم بالطبقة العليا الحاكمة. هذه العقوبات تشكّل صيغة وحشية من صيّغ العقاب الجماعي؛ إنها تدفع الغالبية للفقر فيما تثّري قلة قليلة من الناس. إنها تتيح الإمكانية للاستغلال والتحالفات غير المرغوب بها. وبذلك فهي تولد أنواعاً جديدة من الممارسات الاقتصادية. وتكشف تناقضاً مهماً في الهوس الذي استشرى في القرن الأخير فيما يتعلق قضية المقياس: إنه يعتمد على ما لا يُقاس. فعلياً، إن ما يُدعى الاقتصاد "غير الرسميّ" هو الذي يجعل الاقتصاد الرسميّ أمراً ممكناً.
ليمونادا مرّة
إذن حماس تصنع الليمونادا بما تقدّمه لها إسرائيل من الليمون المر. فمع بدء الحصّار في العام 2007، حوّلت حكومة حماس المتاجرة المتواضعة عبر الأنفاق لـ"مشروع تجاريّ هائل". وكما أظهّر محلّل الشرق الأوسط نيكولاس بيلهام، علت ايرادات التجارة عبر الأنفاق، عشية عملية "الرصاص المصبوب" في كانون الأول 2008، من معدل 30 مليون دولاراً للسنة في العام 2005 الى 36 مليون للشهر. أسواق رفح الممدودة تحت الأرض تنقل كل شيء من المستلزمات أولّية وحتى الأسلحة. وتشكل الأسلحة صنفاً من التجارة الذي لفت انتباه وعناية كل من مصر وإسرائيل. ففي شباط من هذا العام، دمّرت مصّر أنفاقاً هائلة رداً على هجوم ميليشيا على جنود مصريين بالقرب من رفح.
ولاقت رؤية حماس في جعل تجارة الأنفاق منطقة تجارة حرة رسمية ترحيباً بين الشركات المصرية، فيما يبدو الرئيس المصري الجديد، وبضغط أمريكي، أقل تقبلاً للأمر، كل هذا في الوقت الذي قدّمت إسرائيل فيه استعراضاً آخر، مسلحاً ومديداً وإن لم يكن دقيقاً، وذلك بتفجيرها المجمع العسكري لتصنيع الأسلحة في الخرطوم.
في البدء، تحدّت أنفاق رفح منطق السعرات الحرارية، فأفلت التصدير والتزويد من قبضة القياس. ومن بين أن تكون تحت الإحتلال الإسرائيلي وبين أن تكون هدفاً للمعونة الإنسانية، اتجهت حماس إلى رأسمالية السوق الحرة. وكما أشارت المتخصصة في الاقتصاد السياسي، سارة روي، في ندوّة ألقتها في مركز فلسطين في واشنطن في شهر تشرين الأول، فأن التجارة المحلية باتّت غير قادرة على منافسة المتاجرة "التحت-أرضية". لقد تم تهميش طبقة التجار في الوقت الذي تصاعد فيه اعتماد الناس على حكومة حماس.
إذن فإنه ليس بالصدفة أنه حالما قامت حمّاس بالسيطرة على الأنفاق التجارية في العام 2007، باشرت في قوننة، رصد وفرض الضرائب على تجارة الأسواق التحت-أرضية. أدركت الحكومة سريعاً أن القياسات تعتبر مفتاحاً في تمكين سيطرتها السياسية والإقتصادية.
يجدر بالذكر أن إسرائيل قامت ومنذ مبادرة سفينة "المافي مرمرة" في العام 2010 برفع جزئي للقيود التي فرضتها على دخول الطعام الى غزة. إلا أن استعمال الضغط العشوائي على مجموعة سكّان بكاملها ما يزال يشكل القاعدة للسياسة الحالية.
بإمكان إسرائيل، وقد قامت في السابق بذلك، إطفاء النور على مبادرات وابتكارات ومقاولات حماس وكذلك على مليون ونصف غزاوي بـ "كبسة زر" لا أكثر. وفي ظل السيطرة المحكّمة والتامة لإسرائيل على المجال الجويّ، والمياه الإقليمية، والبنى التحتية وسجّل السكان، تظل غزة، السجن المفتوح الأكثر إكتظاظاً في العالم. أما الليمونادا في غزة، فهي مرّة أكثر من اللازم.
[نشرت المقالة للمرة الأولى على جدلية بالإنجليزية وترجمتها إلى العربية حنين نعامنة]